الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
قال أبو علي: وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن: {فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله} انتهى. والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر: فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف. وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا، ولا تقول عميت على كذا؟ وقرأ الإخوان وحفص: فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول، أي أبهمت عليكم وأخفيت، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل. وقرأ أبيّ، وعليّ، والسلميّ، والحسن، والأعمش: فعماها عليكم. وروى الأعمش عن أبي وثاب: وعميت بالواو خفيفة. قال الزمخشري: (فإن قلت): فما حقيقته؟ (قلت): حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي، ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.(فإن قلت): فما معنى قراءة أبيّ؟ (قلت): المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ يعني: أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين انتهى. وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على {أرأيتم} مشبعاً، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين: أحدهما منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول: أرأيتك زيداً ما صنع، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة. وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب من الله} أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله. أرأيتكم يطلبه منصوباً، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً، فأعمل الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير: أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله: أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها ونحوه، فسيكفيكهم الله، ويجوز فسيكفيك إياهم، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل. قال: وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه. وقال ابن أبي الربيع: إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير، تقول: أعطيتكه. قال تعالى: أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له، قال سيبويه: فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك: أعطيتكه وقد أعطاكه. قال الله تعالى: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، فهذا كهذا، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى. فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك. وقال الزمخشري: وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى. وأخذه الزمخشري من الزجاج، قال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق.وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرئ القيس: والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً. قال النحاس: ويجوز على قول يونس أنلزمكمها، كما تقول: أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: أنوحيها عليكم، وقوله في ذلك خطأ. قال ابن عطية: وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى. ومعنى شطر نحو، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
وأنشد الفراء: والعائد على الموصول محذوف أي: تزدرونهم، أي: تستحقرهم أعينكم. ولن يؤتيهم معمول لقوله: ولا أقول، وللذين معناه لأجل الذين. ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب، أي: ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم، الله أعلم بما في أنفسهم، تسليم لله أي: لست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه. وقيل: هو رد على قولهم: اتبعك أراذلنا، أي لست أحكم عليهم بأنْ لا يكون لهم خير لظنكم بهم، إن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة. وقال الكلبي: دعوتنا. وقيل: وعظتنا، وقيل: أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك.وقرأ ابن عباس: فأكثرت جدلنا كقوله: {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً} فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي، والعائد محذوف أي بما تعدناه، أو مصدرية، وإنما كثرت مجادلته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم. قال: إنما يأتيكم به الله، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي: إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه، ولا أن تمتنعوا. ولما قالوا: قد جادلتنا، وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال: ولا ينفعكم نصحي.وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: نصحي بفتح النون، وهو مصدر. وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر، واحتمل أن يكون اسماً. وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره: إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني: اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إنْ كان الله يريد أن يغويكم.فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. ونظيره: {وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} وقال الزمخشري: قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني. وقال ابن عطية: وليس نصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين، وأنّ إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى. وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال: جواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع.والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله: غوى الرجل يغوي وهو الضلال. وفيه إسناد الإغواء إلى الله، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون: إن الضلال هو من العبد. وقال الزمخشري: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف، فلا ينبغي أن يقال: إذا عرف الله كما قال الزمخشري، وللمعتزلي أن يقول: لا يتعين أن تكون إن شرطية، بل هي نافية والمعنى: ما كان الله يريد أن يغويكم، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى، ويكون قوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر. وقيل: معنى يغويكم يهلككم، والغوي المرض والهلاك. وفي لغة طيء: أصبح فلان غاوياً أي مريضاً، والغوي بضم الفصيل وقاله: يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله: الفراء، وحكاه الطبري يقال منه: غوى يغوي. وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك، أو لما يهلك بعد. قال ابن الأنباري: وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره. وإذا كان معنى يغويكم يهلككم، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني، بل الحجة من غير هذا، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ وفي قوله: هو ربكم، تنبيه على المعرفة بالخالق، وأنه الناظر في مصالحكم، إن شاء أن يغويكم، وإن شاء أن يهديكم. وفي قوله: وإليه ترجعون، وعيد وتخويف.
|